كتب علي محمد الهاشم :
قبل شهر من وقتنا الحالي شنت الطائرات المقاتلة الاسرائيلية غارة داخل العمق السوري بصورة مباغتة يلفها الغموض، والتزم كلا الطرفين ازاءها الصمت لبرهة زادت من غموض بعض التصريحات المتناثرة.
وليس المهم ماذا ضربت المقاتلات القاذفة الاسرائيلية، بل كيف تمكنت تلك القاذفات التي لا تتمتع بقدرات الاختفاء عن الرادار من اختراق شبكة الدفاع الجوي السورية المتطورة التي تم تحديثها منذ مدة قصيرة؟
وماذا استخدم الاسرائيليون هذه المرة من انظمة تشويش في تنفيذ اختراقهم هذا؟
أبعاد القتال الخمسة
مر تاريخ الحروب بمراحل وتطورات عديدة كان اكثرها اثارة وتطورا ما تم تحقيقه مع بداية القرن الماضي، فقد كانت الحروب تتمحور صراعاتها في الغالب على الارض، ولاتزال كذلك حتى الآن وهو ما يتم اطلاق لقب البعد الاول عليه، حيث تتم المجابهة ما بين خصمين على الارض، التي تسمى ميدان القتال.
لكن هذا الميدان اكتسب بعدا ثانيا وهو المواجهة البحرية، ومع دخول الطائرة في الحرب العالمية الاولى عام 1914 ميدان القتال اكتسب بعدا ثالثا وهو المواجهة في الجو بين الطائرات، وحققت الحرب الجوية اهمية لم تستنفد حتى يومنا هذا.
ولم يكتف البشر من تلك الابعاد الثلاثة فأضافوا البعد الرابع وهو الفضاء، خصوصا مع نجاح السوفيت في إطلاق اول قمر صناعي وهو 'سبوتنك' الذي يتم الاحتفال بمرور نصف قرن على نجاحه اليوم.
واعتقد العالم بعد الوصول الى البعد الرابع بأنه لن يكون هناك بعد آخر، حيث شكل الفضاء اكبر تلك الابعاد، والحقيقة اكدت عدم صحة ذلك، فمع الاعتماد الشديد والرهيب للالكترونيات في تسيير والاتصال والتحكم بجميع الاسلحة والمعدات، ظهر بعد خامس هو 'الفضاء السايبري او الافتراضي'، وهو ما بات يعرف ب'حرب المعلومات' INFO WARFARE التي تجاوز ابعادها الابعاد الاربعة الاخرى بل واحتوتها كلها معا. من خلال اعتمادها على معطياتها. هذا البعد هو الذي يتحكم بالكمبيوترات وانظمة الاتصال والادارة والتشفير والانترنت وغيرها من الالكترونات.
الحرب المعلوماتية
ركز الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، على اهمية الحرب المعلوماتية او ما بات يطلق عليه 'الحرب السايبرية' CYBER WAR وبالطبع لاسرائيل باع طويل في تطوير تلك الانظمة وحتى تصنيعها محليا. وقد بينت المعارك التي خاضتها اسرائيل مع سوريا خلال الحرب اللبنانية الاولى في عام 1982 انهم متفوقون في اجهزة التشويش ولعل المعارك التي خاضتها في البقاع خير دليل على ذلك. فقد استخدمت اسرائيل طائرات غير مأهولة مسيرة عن بعد في خداعها لبطاريات الصواريخ المضادة للطائرات من نوع سام، ومن ثم قامت بقصفها بمقاتلاتها القاذفة، وتكبدت سوريا خسائر جسيمة من جراء ذلك. ولكن في الغارة الاخيرة التي قام بها الطيران الاسرائيلي، لم تكن مجرد عملية تشويش وحسب، بل كانت عملية تضليل واستحواذ على المنظومة الرادارية السورية وتطويعها لمصلحتها بالكامل، اي بمعنى آخر استخدمت اسرائيل حسب قول احد الجنرالات الاميركيين المتقاعدين، اول اسلحتها المعلوماتية او 'السايبرية'.
جهاز 'سوتر'
منذ اقل من نصف عقد من الزمن طورت شركة BAe البريطانية المتخصصة بالانظمة الدفاعية والطيران لمصلحة سلاح الجو الاميركي، جهاز حرب الكترونية معلوماتية اطلقت عليه اسم سوتر Suter وهي كلمة هجين من كلمة تعني 'خط الاتصال'.
ويعمل هذا الجهاز المحمول جوا كسلاح خارق للانظمة المعلوماتية للعدو، وتمت تجربته بصورة محدودة في افغانستان والعراق من قبل سلاح الجو الاميركي في العام الماضي اول مرة حيث استخدم لاختراق شبكات الاتصال التابعة للجماعات الارهابية. والجهاز المذكور يمكنه الولوج الى اعتى شبكات الاتصال والتحكم والقيادة للعدو والتنصت عليه ومشاهدة الصورة نفسها التي يشاهدها العدو في الوقت نفسه على شاشات راداره، ومن ثم ارسال سيل من الاشارات المعلوماتية للاستحواذ عليه دون ان يشعر العدو بذلك، والتحكم به عن بعد وارسال اوامر لتضليله واعطائه اوامر مباشرة لحجب طائراته عن العدو والتلاعب بمعطياته.
من جهة اخرى، يعمل جهاز 'سوتر' المصنف كأداة للقرصنة الكمبيوترية 'الهاكرز'، ايضا كسلاح للطاقة، فهو يعتمد على بث موجات المايكروويف عالية الطاقة التي يتم تطوير اسلحة مشتقة منها تعمل من خلال رادارات الطائرات المقاتلة، لتقوم بتسليط اشعتها على صاروخ جوال على سبيل المثال ومن ثمة حرفه عن مساره او الدفاع عن نفسها عبر حرف مسارات الصواريخ المضادة للطائرات التي قد توجه اليها من قبل العدو.
وقد نجحت شركة BAe بصنع جهاز يجمع ما بين طبيعة عمل اشعة الليزر وموجات الرادار، ولكن على هيئة موجات مايكروويف ذات بث يتجاوز 10 غيغاهيرتز، وتم تصغير المجسات الى احجام لا يتجاوز طولها 10 سم بحيث لو تم تجميع مائة منها فلن تتجاوز المساحة التي ستشغلها المتر المربع الواحد، ويبث الجهاز موجاته بسرعات فائقة تقاس باجزاء من الثانية (نانوثانية).
يشار الى ان هذه الاجهزة قد باتت متطورة لدرجة انها يمكن ان تقوم بتعطيل صواعق المتفجرات والعبوات الناسفة التي قد يستخدمها الارهابيون، كما هناك انباء تشير الى ان الجيل الثالث من اسلحة الطاقة ستقوم ليس فقط باستخدام اجهزة العدو لمصلحتها وتعطيلها وحسب، بل وحتى في توجيه اسلحته الموجهة كالصواريخ البالستية ارض - ارض مثل سكود وغيرها من الاسلحة ضده من خلال اعطائها اوامر معاكسة فتنحرف عن العدو.
التكتيك الإسرائيلي للغارة
إن مثل هذه الاسلحة، كما اشرنا من قبل، يمكن حملها على متن طائرة من دون طيار وبالتالي قد يكون الاسرائيليون استخدموها في تضليل الرادارات الروسية المتطورة التي حصلت عليها القوات السورية حديثا، وهي من الجيل الجديد حسب ما ذكرته الدوائر الاستخباراتية الغربية، وانها قامت بحجب صورة المقاتلات الاسرائيلية من طراز F-15 وF-16 غير الخفية عن شاشات الرادار بدل التشويش عليه، ففي التشويش يعلم العدو ان هناك من يحجب الصورة عنه.
وهذا الامر الذي يفسر قيام وفد روسي فني بزيارة سرية لسوريا لمعاينة اسباب عدم تمكن تلك الرادارات المتطورة من كشف تلك المقاتلات التي لا تتمتع بصفة الخفاء بتاتا، كما ذكر الجنرال الاميركي المتقاعد لمجلة 'افييشن ويك اند سبيس تكنولوجي'.
ويستغل جهاز 'سوتر' البث الراداري لرادارات الخصم وشبكة اتصالاته والمعلومات الملحقة به فيقوم بالولوج اليها دون ان يشعر الخصم بذلك، واذا ما شعر العدو بذلك على سبيل الصدفة فإنه قد يعمد الى القيام باجراء وقائي يتمثل في ما يعرف 'الرمش' Blink وهو عبارة عن قطع مباشر وفوري دون سابق انذار لبث الرادار، لكنه وحسب زعم احد الخبراء بهذا المجال لا يجدي نفعا بسبب سرعة ولوج تلك المعطيات لجهاز 'سوتر' التي تقاس بسرعة الضوء.
وفي النتيجة، لقد غيرت الغارة الاسرائيلية المفهوم العام للحرب الحديثة، حيث حلت الحزمات الكهرومغناطيسية محل المقذوفات والصواريخ والقنابل، وباتت الحرب الحديثة غير مرئية وقليلة الاضرار المادية والخراب، وصار من يملك التفوق المعلوماتي هو فقط الذي يمتلك زمام الامور وبالطبع سيكون سيد الموقف، انه عالم حرب المعلومات،انه عالم البعد الخامس.
وبذلك تكون واشنطن قد وجهت عبر اسرائيل رسالة مثلثة الى سوريا وايران وروسيا التي تمتلك هذه الاجهزة الرادارية الحديثة والتي تشكل الاداة الوحيدة لكشف اي ضربة لها وقد باتت غير ذات فعالية.
المصادر: - الموقع الالكتروني لمجلة 'افييشن ويك اند سبيس تكنولوجي'.
- ويكيبيديا - الموسوعة الحرة.
هل ل 'السوتر' يد في انقطاع البث التلفزيوني في إسرائيل؟
أمضى ملايين من الاسرائيليين شهرا منذ الغارة الاسرائيلية الاخيرة على سوريا والتي تم استخدام جهاز للحرب الالكترونية ويدعى 'سوتر' للتشويش على الرادارات السورية، وهم يعانون من انقطاع او تجمد الصورة في اجهزة التلفزة لديهم من دون معرفة السبب، وقد جاهدت شركة البث التلفزيوني التي تستخدم القمرين الصناعيين الاسرائيليين للاتصالات 'عاموس 1' و'عاموس 2' لمعالجة هذه المشكلة من دون جدوى. وقد كان سكان المناطق الشمالية لإسرائيل اكبر المتضررين، فيما تواجه الشركة خطر الغاء جماعي للاشتراكات.
وكان الانقطاع والتشويش قد بدآ فور تنفيذ الطيران الاسرائيلي للغارة على المواقع السورية في 6 سبتمبر الماضي، واتهم البعض في اسرائيل القوات المسلحة بأنها السبب في ذلك، حيث استخدمت جهاز التشويش 'سوتر' كما تم الكشف عنه مؤخرا، فيما قلل آخرون من هذا الاحتمال، حيث ان انقطاع البث قد استمر لمدة زمنية اطول من تنفيذ الغارة وان الغارة ليس لها اي دور في ذلك، وارجع البعض الآخر السبب لوجود عدد من السفن الحربية وتلك التي للتجسس والتابعة للناتو والبحرية الاميركية بالبحر الابيض المتوسط ولا تزال المسألة غير معروفة والانقطاع مستمر. فهل هي فعلة 'السوتر'؟